"حصاد الضباب" مشروع استثنائي زوَّد 16 قرية بالماء الصالح للشرب
على بعد 17 كيلومترا عن مدينة سيدي إفني الساحلية، وفي منطقة جبلية وعرة يكسوها الضباب من كل اتجاه، توجد قرية "بومزكيدة" الجبلية التي تقطنها عشرات العائلات، في هذه المنطقة النائية برز مشروع جديد في المغرب يهم قطاع الماء الصالح للشرب، مشروع فريد من نوعه يستحق المتابعة في ظل التغيرات المناخية وتوالي سنوات الجفاف على بلادنا، هذا المشروع يهدف بالمقام الأول إلى توفير الماء الشروب للساكنة التي كانت تعاني وبشدة من ندرة المياه. فقوام المشروع يعتمد على تقنية مبتكرة لتجميع المياه من الضباب والرطوبة بصفة رئيسة، مستغلا في ذلك علو المنطقة المناسب الذي يصل إلى 1225 متر.
مشروع أمل بدأ بنقل تجربة كندية
جمعية دار سي حماد، هي جمعية مغربية مئة بالمئة، يترأسها أستاذ جامعي له تجارب وأبحاث في مجال الماء والمناخ على الصعيدين الدولي والوطني، أخذ بزمام الأمور بعد أن تفاقمت مشاكل الساكنة في تأمين الماء الصالح للشرب خلال السنوات الأخيرة، حيث كانت تقطع النساء الكيلومترات من أجل توفير هذه المادة الحيوية، جاء بفكرة مبتكرة كانت في البداية تبدو صعبة التطبيق والتحقيق ببلادنا، لكن مناخ المغرب المتنوع كان له رأي آخر، وجعل الحلم ممكنا، أعطى بصيص أمل لصاحب الفكرة الذي عاد لوطنه بعد تجربة الغربة بالديار الكندية.
فبعد إجرائه لأبحاث تقنية مطولة لأشهر في إقليم سيدي إفني على وجه الخصوص، حصل على نتائج مرضية ومشجعة سيكون لها وقع إيجابي اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا على دواوير المنطقة النائية في قادم السنوات، هي بارقة أمل بدأت تلوح في الأفق بعدما أحاط كابوس العطش بالساكنة من كل مكان وجثم على نفوس أطفالها ونسائها ورجالها، فأثناء اطلاعه على نتائج أبحاثه، يروي لنا السيد عيسى الدرهم، "أحسست بسعادة غامرة، فأن تتمكن من تأمين تزويد المئات من المواطنين الذين يعانون الأمرين بالماء الصالح للشرب، وتسدي خدمة جليلة لبلادك فهو حلم جميل تحقق".
في الجزء الأول من هذا الحوار المتميز بمعطياته، سيعرفنا السيد عيسى الدرهم، صاحب الفكرة والمشروع، ورئيس جمعية دار السي حماد، على البدايات الأولى لابتكاره وأهم الأهداف التي حققها للساكنة عبره، والمتمثلة في تأمين تزويدهم بالماء الصالح للشرب إضافة إلى أبرز المعطيات التقنية حول المشروع؟
بداية أستاذ عيسى كيف تبادرت إلى ذهنكم فكرة هذا الابتكار التقني المتميز؟
في الواقع يمكن القول إن فكرة هذا المشروع بدأت منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي عندما كنت مستقرا بكندا حيث سمعت بمثل هذا الابتكار لأول مرة، وذلك من خلال مشروع تعاون بين الكيبيك وأمريكا اللاتينية وبالأخص دولة التشيلي، حيث يتم حصد الضباب من الجبال لينتج ماء صالح للشرب من أجود المياه، وعند عودتي إلى المغرب عام 2000 وبالضبط بمنطقة سيدي إيفني سمعت بتواجد منطقة بالقرب من هذه المدينة فيها جبل يتميز بالخاصيات نفسها التي كنت قد اطلعت عنها في كندا وهو بالمناسبة الجبل الذي نشتغل عليه الآن من خلال هذه التقنية، هذه المنطقة والقرية تسمى "بومزگيدة" حيث يصل فيها طول الجبل إلى 1225 متر فوق سطح البحر.
بعدها سمعت بوجود بعد اللواقط الهوائية التي تتجمع فيها مياه الضباب والرطوبة، الشيء الذي توقفت عنده بجدية فقلت مع نفسي إن هذه القرية ربما هي المكان المناسب والمنشود لإطلاق هذا الابتكار التقني، لأقوم بعدها بأبحاث علمية دقيقة تبين لي من نتائجها أنه المكان المقصود بالفعل لإنجاح الفكرة، خاصة وأن هناك شروط كثيرة يجب توفرها لكي يتم إكمال المشروع على أحسن وجه.
إذن يمكن القون إن المشروع قد بدأ في المغرب مع بداية الألفية الجديدة؟
نعم بكل تأكيد، حيث بعدها وبالضبط سنة 2007 اتصلت بمنظمة عالمية كندية وتشيلية تهتم بمثل هذه المشاريع والابتكارات، وسألتهم على إمكانية إطلاق مشروع مماثل في المغرب، ليوافقوا على الفور، حيث قاموا بإرسال ممثلة إسبانية لهم تشتغل بشمال إفريقيا، لتنطلق معنا هذه الأخيرة في معاينة المنطقة وبالضبط بين مدينة سيدي إفني وقرية بومزگيدة، إذ ومن خلال تجارب علمية دقيقة، اتضح لنا أن المكان المناسب لإطلاق هذا المشروع الذي اعتبره ضخما هو قرية "بومزگيدة"، لنقدم بعدها هذه النتائج العلمية في أحد المؤتمرات العالمية والتي تقام كل أربع سنوات، ولها علاقة مباشرة بالمشاريع التي تهم تحصيل الماء من الضباب والرطوبة، وبعدها في سنة 2010 وبسبب احتياجات القرية للماء الصالح للشرب بشكل عاجل، أطلقنا هذا المشروع الكبير.
هل من الممكن أن تعطينا عدد السنوات التي يشتغل فيها المشروع بشكل مستمر؟ وهل لبى حاجيات الساكنة من الماء الصالح للشرب؟
يمكن التأكيد على أن مشروعنا المبتكر يشتغل منذ 8 سنوات دون انقطاع، كما يمكن الجزم أن سكان كل المنطقة تم تأمين حاجياتهم من الماء الصالح للشرب ومن جودته التي تعتبر من بين الأفضل على الصعيد الوطني، والتي يطلق عليها هنا في المغرب باسم "الماء الغدير" وهو الماء الذي لا يصل إلى الأرض، وبعدها نعمل على خلطه بالماء المتواجد بالثقوب والآبار حيث نمزجه بالملح لكي يكون في المستوى المطلوب ومطابقا لمعايير الجودة بالمغرب.
فحاليا نقوم بتزويد 16 دوارا بالماء الصالح للشرب، أي ما يفوق 700 نسمة، وهو الرقم الذي يصل في فصل الصيف إلى ما يزيد عن 1000 نسمة، فالمشروع يضم 1600 متر مربع، حيث نقوم بأخذ الماء من الغيوم التي يتجاوز علوها عن سطح البحر 800 متر أو أكثر، كما أن المسافة بين جبل بومزگيدة وبحر سيدي إيفني تصل إلى 40 كيلومتر، وهو ما يجعل الماء يتجمع في السحب خلال قطعه لهذه المسافة ليصل إلى بومزگيدة بوفرة، الشيء الذي لبى احتياجات كل ساكنة المنطقة.
نمر الآن إلى الجانب التقني. ما هو نوع الشبابيك التي تستخدمونها في حصد الضباب؟
سؤال مهم، أنواع الشبابيك التي نشتغل بها الآن في هذا المشروع جد متطورة عن تلك التي اشتغلنا بها مع بداية المشروع بشكل رسمي والتي قمنا بجلبها وقتها من أمريكا اللاتينية، حيث وقعت لنا عديد المشاكل بسببها عندما تهب الرياح بشكل قوي على المنطقة، وهو ما جعلنا نبحث عن شباك تكون متطورة وتستجيب للخاصيات الجغرافية للمكان وتقاوم الرياح بشكل أفضل، وبعد البحث تبين لنا وجود منظمة بألمانيا تعتمد نفس المشروع وتعاني من المشاكل ذاتها، وهو ما جعلنا نتباحث معها بشكل ثنائي عن حل، ليتضح لنا وجود منظمة تهتم بمجال الماء وتمول البحث والابتكار فيه، لنتصل بها ونطلب منها تمويل بحث علمي لإنجاز شبابيك قوية، ليوافقوا على الفور حيث تطوع باحثون من جامعة ميونخ لإنجاز هذه الشبابيك، ليتحصلوا على نتائج جيدة مكنتهم من صنع الشبابيك التي نشتغل بها إلى يومنا هذا حيث أطلق عليها اسم "كلاود فيشر".
فبعد تجربتها في المغرب نجحت بكل ممتاز لنطلب من الحكومة الألمانية تمويل شراء الشبابيك المبتكرة، لتمولها بالفعل، وتمنحنا شبابيك تغطي أزيد من 1700 متر مربع وهي التي نستغلها إلى حدود اليوم.
في نهاية هذا الجزء الأول من الحوار، هل هذه الشبابيك تحسن في انتاج الماء الصالح للشرب؟
نعم بشكل كبير جدا، دعني أخبرك أن الشبابيك التي كنا نستعملها ونسختها صدرت عام 2013، فمثلا في جبل "تالوست" فالنتيجة التي تمنحنا اياها هي 15 لترا في المتر مربع الواحد، من خلال 57 حدثا ضبابيا، بينما الشبابيك التي نستعملها حاليا والتي صدرت عام 2021 فتمنحنا في نفس الأحداث الضبابية ما يناهز 26.46 لتر في المتر مربع، أي بمعدل يزيد عن 11 لترا.
في السياق ذاته وفي جبل "بومزگيدة"، فمن خلال 87 حدثا ضبابيا فأن شبابيك نسخة 2013، تمنحنا 24.92 لتر مربع في المتر مربع، بينما نسخة 2021، فتمنحنا ما يفوق 29 لتر في المتر مربع، بينما تظل أحسن النتائج هي التي تحصلنا عليها في حبل "تابديست"، حيث مكنتنا شبابيك 2013 من الحصول على 31.60 لتر في المتر مربع، فيما مكنتنا شبابيك نسخة 2021 من الحصول على ما يناهز 41 لتر في المتر مربع من خلال 99 حدثا ضبابيا.